ولد ((فرديناند دي سوسير)) Ferdinand de Saussure في السادس والعشرين من نوفمبر عام (1857م)، ((بجنيف)) في ((سويسرا))، وهو سليل أسرة ذات إنجاز رصين في مجال العلوم الطبيعية،
لكن ((بيكتيت)) Pictet عالم اللغة وصديق الأسرة، وجهه وهو في سن مبكرة إلي الدراسة اللسانية، فتعلم ((سوسير)) الألمانية والإنجليزية واللاتينية، بالإضافة إلي الفرنسية، وعندما بلغ سن الخامسة عشر، أضاف إليهم معرفته باليونانية، وقد كتب ((لبيكتيت)) "مقالا عن اللغات"، حاول فيه التوصل لنظام عام للغة، يرجع فيه اللغات جميعا إلي نظام يقوم علي حرفين أو ثلاثة من الحروف الساكنة الأساسية، وعلي الرغم من مقدار التبسيط الضخم الذي يَسِمُ هذه المحاولة، إلا أن ((بيكتيت)) لم يثبط عزيمة ((سوسير))، وإنما شجعه علي أن يدرس السنسكريتية وهو ما يزال تلميذا بعد في المدرسة.
وفي عام (1875م) ألتحق ((سوسير)) بجامعة ((جنيف)) لكي يدرس الطبيعة والكيمياء كما هو التقليد المتبع في عائلته، لكنه لم يمتنع عن دراسة نحو اللغة اليونانية واللاتينية، وبعد قضاء سنة في هذه الدراسة، تيقن أن مجاله العملي الصحيح هو دراسة اللغة، وليس شيئا آخر، ومن ثـَمَّ أقنع والديه أن يرسلاه إلي جامعة ((لايبزج)) Leipzig، وقد كانت هذه الجامعة مقرا لحركة عرفت باسم "مدرسة فقهاء اللغة الجدد" Neogrammarians [Junggrammatiker]، وهي حركة ذات نزعة تاريخية مقارنة، استفاد منها ((سوسير)) كثيرا في أفكاره وآرائه.
وقد قضي ((سوسير)) في ((لايبزج)) أربع سنين إلا ثمانية عشر شهرا قضاها في ((برلين))، نشر فيها عام (1878م) مذكرة من أربع مقالات، عن "النظام البدائي لحروف اللين في اللغات الأوروبية والهندية" (Mémoire sur le système primitif des voyelles dans les langues indoeuropéennes ) يصل حجمها إلي ثلاثمائة صفحة، لكن أكثر ما يعنينا فيها تأكيده علي أهمية البحث في المشكلات المنهجية التي تعوق مجال الدراسات اللغوية، والتي تتسبب في اضطراب وعدم استقرار نتائج البحث في الحقل اللغوي.
وفي عام (1880م)، أعد ((سوسير)) أطروحته من أجل الحصول علي درجة الدكتوراه، وكانت بعنوان: "استخدام حالة الإضافة في اللغة السنسكريتية" (De l’emploi du génitif absolu en sanskrit)، وقد حصل عليها بامتياز. ثم رحل ((سوسير)) في العام نفسه إلي باريس، وحقق هناك نجاحا ملحوظا، حيث قام بتدريس كل من اللغة السنسكريتية والقوطية، والألمانية الراقية القديمة، وغيرها من اللغات أيضا في "المدرسة العملية للدراسات العليا" ((l'Ecole Pratique des Hautes Etudes، بالإضافة إلي نشاطه في "جمعية باريس اللغوية" (Société de linguistique de Paris)، مما كان له إسهامه في إنشاء جيل جديد من علماء اللسان الفرنسيين لم يكن موجودا قبل مجيئه.
وفي عام (1891م) عاد إلي ((سويسرا))، إذ مُنِح في جامعة ((جنيف)) كرسي الأستاذية للغة السنسكريتية والنحو المقارن، وتزوج وأنجب ولدين، ونادرا ما خرج للسفر، وتناقصت كتابته تدريجيا، وبدا أنه يعيش حالة من العزلة المريحة؛ لكن في عام (1906م) إثر تقاعد زميله ((جوزيف وريشيمر)) Joseph Wersheimer وافق ((سوسير)) علي أن يخلفه في كرسي "الألسنية العامة" (La chaire de linguistique générale)، ومن ثـَمَّ ألقي ثلاثة مجموعات من المحاضرات كان تاريخها علي النحو التالي: 1906-1907 و1909-1910 و1910-1911، ولم يجمع ((سوسير)) هذه المحاضرات في كتاب ولم ينشرها هو، خاصة مع مرضه في صيف عام (1912م)، ثم وفاته في الثاني والعشرين من فبراير عام (1913م).
وبعد وفاته شعر طلبته وزملائه بأهمية تلك المحاضرات، وبما فيها من فكر رصين؛ فعملوا علي نشر ما ألقاه من محاضرات في كتاب، وواجه ذلك صعوبة شديدة؛ لكون ((سوسير)) لم يحتفظ إلا بالقليل من المسودات الخاصة بتلك المحاضرات، ومن ثم لم يكن هناك حل سوي المذكرات التي قيدها الطلبة الذين حضروا له سـلاسـل محــاضراتـه الثلاث، وكان ((سوسير)) قـد ألف كل مجموعة منها تأليفا جديدا، ووفق خطة مختلفة، وكانت هذه المذكرات تحوي كما هائلا من التكرار، والتعارضات أحيانا، لذا أقدم كل من ((شارل بالي)) Charles Bally، و((ألبرت زيشيهاي))Albert Sechehaye ، زميلا ((سوسير)) اللذان لم يحضرا المحاضرات بنفسيهما، أقدما علي الاجتهاد في أن يؤلفا من كل ذلك عملا موحدا، يحاولا فيه تحقيق بنية مركبة، مع التسليم بأولوية السلسلة الثالثة من المحاضرات، دون إهمال السلسلتين الأخرتين، وملاحظات ((سوسير)) القليلة التي سجلها بنفسه، وقد نشرا ذلك بمعاونة ((ألبرت ريدلنجر)) Albert Riedlinger في عام (1916م) تحت عنوان: ((محاضرات في الألسنية العامة)) (Cours de linguistique générale)، وجدير بالذكر أن مذكرات الطلبة نفسها لم تكن متاحة للقراء حتى عام (1967م)، إذ في ذلك الوقت بدأ ((رودلف إنجلر)) Rudolf Engler في نشرها وتقديمها لجمهور القراء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق